عدنان بن عبد الله القطان

12 شوال 1443 هـ – 13 مايو 2022 م

—————————————————————————-

 

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، ونشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السر والعلن، واعملوا لما بعد الموت، فماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: تمر جنائز الأموات محمولةٌ على الرقاب منقولةٌ إلى مثواها ومصيرها القادم، تمر علينا في منظر رهيب، ومشهد مهيب، تقشعر منه الأبدان، وترتجف له القلوب، ولكن نفوساً أخرى تمر بها هذه المناظر فتلقي عليها قليلاً من دموع وعبرات في نظرات عابرات، وربما صاحب ذلك كآبة حزن أو سحابة أسى، ثم سرعان ما يطغى على النفوس لهو الحياة فتسهى ثم تنسى، وتذهل ثم تغفل. هل يظن هؤلاء أن الموت نهاية الحياة؟! وهل يعتقدون أن سعي العالمين نهايته أن يُهال عليه التراب؟! ذلكم هو ظن الذين كفروا. إنهم الماديون والملاحدة، والكفار والزنادقة لا يرون في الموت إلا انتهاء قصة الحياة، لا يبقى عندهم بعد ذلك إلا أخبار تروى، وآثار تحكى، والأخبار هذه مآلها النسيان، والآثار مصيرها الاندثار: يقول تعالى حاكياً عنهم: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۚ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)… عباد الله: مسألة كبرى بعد الإيمان بالله عز وجل، وقضية عظمى بعد توحيد الله، تكفل بها الوحي، وبرهنت عليه الكتب، وبلَّغتها الرسل. إنها قضية البعث والنشور، والخروجِ من الأجداث والقبور بعد الموت، والوقوفِ بين يدي الكبير المتعال للحساب والجزاء وعرض الأعمال، ثم المصيرِ إما إلى الجنة وإما إلى النار. (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ما من شيء في دعوة رسل الله تبارك وتعالى، استبعده الكفار وأنكرته الملاحدة واستهزأت به الزنادقة، أشد من إنكارهم لليوم الآخر، فتراهم أجيالاً من بعد أجيال من أمم الكفر والإلحاد ينكرون ويستهزئون ويستبعدون.. ولقد سجل القرآن الكريم افتراءهم العظيم، وإفكهم المبين في آيات كثيرة: قال تعالى:(وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ). وقال جل وعلا حاكياً افتراءهم: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـٰماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ). وقال جل وعلا (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ). وقال سبحانه (بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ) هذا هو افتراؤهم وهذا هو عجبهم!!

أيها المؤمنون والمؤمنات : ويتولى القرآنُ الكريم الردَّ بالدليل والبرهان، فحينما يتطاولون على الله بعنادهم، وحينما يكشفون عن بلادتهم، يأتي الدليلُ ناصعاً بينًاً، والحجة جلية ظاهرة: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً،  أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ثم تأتي الغيرة الإلهية من خلال هذا القسم العظيم: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّاً)

ويأتي آخر من الكفار والملاحدة ليرفع عقيرته متسائلاً: (مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ (فجاءه الرد)  قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلاْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَـيْسَ ٱلَذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ،  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ) سبحانك فبلى، سبحانك فبلى، سبحانك فبلى.

خلق آدم من عدم، وخلق حواء من غير أم، وخلق عيسى بكلمة ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وقال له: كن فيكون.

مساكين والله أهل المادة والإلحاد ينساقون وراء ماديّاتهم ويغرقون في دناياهم في طيش وغفلة، محجوبون عن البصر والتبصر، ثم يتساءلون: (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَـٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْـئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَـٰمَةِ)

وما كانت هذه النزعة المادية النزقة التي تملأ رءوس هؤلاء وأشياعهم وأشباههم إلا لاتباع الهوى وتعطيل العقل: (فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ). (أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَى ٱلسَّاعَةِ لَفِى ضَلَـٰلَ بَعِيدٍ). (بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ)

يا هؤلاء: هل يُسيغ العقل أن ينفضَّ سوق هذه الحياة وقد نهب من نهب، وسرق من سرق، وقتل من قتل، وبغى من بغى، وتَجَبَّر من تجبر ثم لا ينال أحدٌ من هؤلاء عقابه؟‍‍‍‍!!

وهل يسيغ العقل أن قوماً آخرين أطاعوا الله ووحدوه وعبدوه وأحسنوا وأصلحوا وأنفقوا وجاهدوا في سبيله ثم لا ينالون أجر ما قدموا؟! ألأنهم كانوا صادقين مخلصين؟! ألأنهم كانوا مغمورين متواضعين؟ أم لأن الحسدة والجبارين تنكروا لفضلهم؟ ووقف الظالمون في طريقهم؟ آذوا وعذَّبوا وشرَّدوا واضطهدوا؟؟ هل يسيغ العقل أن يبقى المجرمون في أمنٍ وعافيةٍ وأمانٍ في العاقبة؟! لا وربك ثم لا. وكلا وعزة الله وجلاله ثم كلا

لابد من موقفٍ ويومٍ يُجزى فيه المحسنُ على إحسانه، والمسيءُ على إساءته، هذا هو نهج العقل والإيمان، والعلم والحكمة برهان ذلك: قوله عز وجل (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

أيها الإخوة والأخوات في الله: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة والذين يكذِّبون بيوم الدين يعيشون في بؤس وشقاء لا أمل لهم ولا رجاء، لا يرجون عدلاً في الجزاء ولا عوضاً عمّا يلاقون في الدنيا من عناء. إن الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يعدو نظرُه حياةَ الدنيا القصيرة القاصرة في حدود أرضه الضيقة، ومدَّةَ عمره القصير، فهو من ضيقٍ إلى ضيق ومن بؤس إلى مسكنة. لقد ضلوا وأضلوا، وما ضلوا إلا بما نسوا يوم الحساب، وما اجترأوا على حرمات الله وأفسدوا في أرض الله، وما ظلموا وتظالموا، وسرقوا واختلسوا وأكلوا أموال الناس بالباطل وارتشوا، إلا لأنهم كانوا لا يرجون لله وقاراً، ولا يرجون حساباً..

 أما المصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، فاستقاموا على الحق والتوحيد، ونبذوا الشرك وأصلحوا عملهم، وأخلصوا لربهم، يحملهم إيمانهم باليوم الآخر والتصديق بلقاء ربهم؛ يحملهم على الصبر والتحمل، والبذل والإحسان، لا يبتغون من أحدٍ غير الله جزاءً ولا شكوراً.

وكما قاموا بعبادة ربهم وأخلصوا له فقد قاموا بحقوق عباده وعدلوا معهم وتركوا ظلمهم، لأنهم يؤمنون بيوم الدين.

أيها المؤمنون والمؤمنات : ورب السماء والأرض لتُخرجنَّ من قبوركم ولتُحشرنَّ إلى ربكم ولتُحاسبنَّ على أعمالكم ولتُجزونَّ بما كنتم تعملون. لتُروُنَّ كلَّ أعمالكم الصغير والكبير؛ القليل والكثير، وذلك على الله يسير..

يوم البعث – عباد الله – يوم مشهود تعددت أسماؤه لعظيم أهواله وأعماله. فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفصل والقيامة، ويوم الدين والحساب، ويوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، حين تَحُقُّ الحاقة، وتَقَعُ الواقعةُ والقارعة، وتجيء الصاخةُ والطامة، يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتكشف خبيئات الضمائر، وحينئذٍ يكون كلُّ إنسانٍ حسيبَ نفسه ورقيبَ عملِه  (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) تشهد عليه صحائفه، وتحكم عليه أعماله وتنطق عليه جوارحه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين،  اللهم إنا نسألك نفوساً لك مسلمة، بك مؤمنة، تعمل للقائك، طمعاً في عطائك؛ وخوفاً من عقابك.

اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأدخلنا الجنة مع السابقين المقربين، وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم البعث والنشور ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المنعوت في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه صلاة تضاعف لصاحبها الأجور.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: إن البعث بعد الموت عقيدة راسخة، وأصل من أصول عقيدتنا فإحياء الموتى وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، حق لا ريب فيه، ومن شك في هذا وقع في خطر عظيم، والعياذ بالله تعالى.  وإن أول مَن يُبْعَث وينشق عنه القبر هو نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْـهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ) نسأل الله أن يحشرنا في زمرته وجماعته وأن يوردنا حوضه وأن يجعلنا من أمته في الدنيا والآخرة.

عباد الله: وإن مما يذَكِّر العبدَ بالبعث بعد الموت وهو مبعث الخطر في نفس الوقت أن العبد إنما يُبْعَث على ما مات عليه،  يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه) فمن مات ساجداً يُبعث يوم القيامة ساجداً، ومن مات صائماً بعث صائماً، ومن مات حاجًّاً أو معتمراً بُعث يلبّي، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ (فمات) فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ ( أي لا تضعوا فيه طيباً) وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا). أي: يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وهذا من كرامة حسن الخاتمة. فيا من عشت على الطاعة والعبادة، ويا من عشت على توحيد الله، اعلم بأنك ستموت على الطاعة والتوحيد، وستبعث يوم القيامة على الطاعة والتوحيد، فكونوا -أيها الإخوة- من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.

أيها المؤمنون والمؤمنات: وللخلائق يوم القيامة منازل ومواقف كثيرة، فالناس بعد الحشر يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، فتأمل حالك -يا عبد الله- أمامه، وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودِقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، والناس يتعاوون فيها ويبكون، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كُلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب، فلن ينجيك اليوم إلا صالح عملك، وقبله رضا الله عنك. فكيف حالك يامسلم عند عبور الصراط، وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف، وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار، وأرجلهم تعلو والنار تغلي بهم، تشوي وجوههم، وتحرق أجسادهم، وتقطع أمعاءهم. فيا له من منظر ما أفظعه! ومرتقى ما أصعبه! ومجاز ما أضيقه! وهول ما أفزعه!  فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه، وأنت مثقل الظهر بأوزارك، تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار. فكيف بك لو زلت قدمك، ووقَعْتَ في قعر جهنم، ووقع بك ما كنت تخافه، وأنت تنادي: يا ليتني قدمت لحياتي، يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً، يا ليتني كنت تراباً، يا ليتني كنت نسياً منسياً. فكيف ترى -أيها العبد- عقلك الآن، وهذه الأخطار بين يديك، فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار والملاحدة في دركات جهنم؟! نسأل الله السلامة والعافية.

فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من ذكر هادم اللذات والقبر والبعث والحشر والحساب، وأكثروا من العمل الصالح مخلصين لرب الأرض والسموات، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.

اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم أختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.

اللهم أرحمنا إذا اشتدت السكرات، وتوالت الحسرات، وأطبقت الروعات، وفاضت العبرات، وتعطلت القوى والقدرات.

اللهم أرحمنا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وتأكدت فجيعة الفراق للأهل والرفاق، وقد حم القضاء فليس من واق. اللهم أرحمنا إذا حملنا على الأعناق، إلى ربك يومئذ المساق للبعث والحشر والحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل بلادنا وخليجنا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين. اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلاء والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً وظهيراً ومعيناً.

 اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المرابطين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واشف مرضانا، واغفر لنا ولموتانا وارحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين